فصل: قال الطيبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي {عسى} ترج في ضمنه خوف شديد، ولما فارق الكفار وأرضهم أبدله منهم أولادًا أنبياء، والأرض المقدّسة فكان فيها ويتردد إلى مكة فولد له إسحاق وابنه يعقوب تسلية له وشدًّا لعضده، وإسحاق أصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة ثم حملت بإسحاق.
وقوله: {من رحمتنا} قال الحسن: هي النبوة.
وقال الكلبي: المال والولد، والأحسن أن يكون الخير الديني والدنيوي من العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة.
ولسان الصدق: الثناء الحسن الباقي عليهم آخر الأبد قاله ابن عباس، وعبر باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية.
واللسان في كلام العرب الرسالة الرائعة كانت في خير أو شر.
قال الشاعر:
إني أتتني لسان لا أسر بها

وقال آخر:
ندمت على لسان كان مني

ولسان العرب لغتهم وكلامهم.
استجاب الله دعوته {واجعل لي لسان صدق} في الآخرين فصيره قدوة حتى عظمه أهل الأديان كلهم وادعوه.
وقال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} و{ملة إبراهيم حنيفًا} {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} وأعطى ذلك ذريته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم، كما أعلى ذكرهم وأثنى عليهم كما أعلى ذكره وأثنى عليه.
جثا: قعد على ركبتيه، وهي قعدة الخائف الذليل يجثو ويجثي جثوًا وجثاية.
حتم الأمر: أوجبه.
الندى والنادي: المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة.
وقيل: مجلس أهل الندى وهو الكرم.
وقيل: المجلس فيه الجماعة.
قال حاتم:
فدعيت في أولى الندى ** ولم ينظر إليّ بأعين خزر

الري: مصدر رويت من الماء، واسم مفعول أي مروي قاله أبو علي.
الزي: محاسن مجموعة من الزي وهو الجمع.
كلا: حرف ردع وزجر عند الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد وعامة البصريين، وذهب الكسائي ونصر بن يوسف وابن واصل وابن الأنباري إلى أنها بمعنى حقًا، وذهب النضر بن شميل إلى أنها حرف تصديق بمعنى نعم، وقد تستعمل مع القسم.
وذهب عبد الله بن محمد الباهلي إلى أن كلا رد لما قبلها فيجوز الوقف عليها وما بعدها استئناف، وتكون أيضًا صلة للكلام بمنزلة إي والكلام على هذه المذاهب مذكور في النحو.
الضد: العون يقال: من أضدادكم أي أعوانكم، وكان العون سمي ضدًا لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه: الأز والهز والاستفزاز أخوات، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج، ومنه أزيز المرجل وهو غليانه وحركته.
وفد يفد وفدًا ووفودًا ووفادة: قدم على سبيل التكرمة، الأدّ والإدّ: بفتح الهمزة وكسرها العجب.
وقيل: العظيم المنكر والأدّة الشدة، وأدنيّ الأمر وآدني أثقلني وعظم علي أدًّا.
الهد: قال الجوهري هدًّا البناء هدًا كسره.
وقال المبرد: هو سقوط بصوت شديد، والهدة صوت وقع الحائط ونحوه يقال: هديهد بالكسر هديدًا.
وقال الليث: الهد الهدم الشديد.
الركز: الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح غيب طرفه في الأرض، والركاز المال المدفون.
وقيل: الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم.
قال الشاعر:
فتوجست ركز الأنيس فراعها

عن ظهر غيب والأنيس سقامها. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ}.
{قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل: فماذا قال أبوه عندما سمع منه عليه السلام هذه النصائحَ الواجبةَ القَبولِ؟ فقيل: قال مُصرًّا على عِناده: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَن ءَالِهَتِى ياإبراهيم} أي أمُعرضٌ ومنصرفٌ أنت عنها بتوجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجب، كأن الرغبةَ عنها مما لا يصدر عن العاقل فضلًا عن ترغيب الغير عنها وقوله: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} تهديدٌ وتحذير عما كان عليه من العِظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما كنت عليه من النهي عن عبادتهم لأرجُمنك بالحجارة، وقيل: باللسان {واهجرنى} أي فاحذَرْني واتركني {مَلِيًّا} أي زمانًا طويلًا أو مليًا بالذهاب مطيقًا به.
{قَالَ} استئناف كما سلف {سلام عَلَيْكَ} توديعٌ ومُتارَكةٌ على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة، أي لا أصيبك بمكروه بعدُ ولا أشافهك بما يؤذيك ولكن {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} أي أستدعيه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديَك إلى الإيمان، كما يلوح به تعليلُ قوله تعالى: {واغفر لاِبِى} بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه وإنما المحظورُ استدعاءُ المغفرة له مع بقائه على الكفر فإنه مما لا مساغَ له عقلًا ولا نقلًا، وأما الاستغفارُ له بعد موته على الكفر فلا تأباه قضيةُ العقل وإنما الذي يمنعه السمعُ، ألا يرى إلى أنه عليه السلام قال لعمه أبي طالب: لا أزال أستغفر لك ما لم أُنهَ عنه فنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآية، والاشتباه في أن هذا الوعدَ من إبراهيمَ عليه السلام، وكذا قولُه: لأستغفرن لك وما ترتب عليهما من قوله: {واغفر لاِبِى} الآية، إنما كان قبل انقطاعِ رجائِه عن إيمانه لعدم تبيّن أمرِه لقوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} كما مر في تفسير سورة التوبة، واستثناؤه عما يؤتسى به في قوله تعالى: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} لا يقدح في جوازه لكن لا لأن ذلك كان قبل ورودِ النهي أو لموعِدة وعدها إياه كما قيل، لِما أن النهيَ إنما ورد في شأن الاستغفارِ بعد تبيّن الأمرِ وقد كان استغفارُه عليه السلام قبل التبيُّن فلم يتناولْه النهيُ أصلًا، وأن الوعدَ بالمحظور لا يرفع حظرَه بل لأن المرادَ بما يؤتسى به ما يجب الائتساءُ به حتمًا لوجود الوعيدِ على الإعراض عنه بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فاستثناؤه عن ذلك إنما يفيد عدمَ وجوبِ استدعاء الإيمان للكافر الموجوِّ إيمانُه لاسيما وقد انقطع ذلك عند ورودِ الاستثناء وذلك مما لا يتردد فيه أحدٌ من العقلاء، وأما عدمُ جوازه قبل تبيّن الأمرِ فلا دِلالةَ للاستثناء عليه قطعًا، وتوجيهُ الاستثناءِ إلى العِدَة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفارِ بقوله: {واغفر لاِبِى} الآية، لأنها كانت هي الحاملةَ له عليه السلام عليه، وتخصيصُ تلك العِدَة بالذكر دون ما وقع هاهنا لورودها على نهج التأكيدِ القسَميّ، وأما جعلُ الاستغفارِ دائرًا عليها وترتيبُ التبرُّؤ على تبيّن الأمرِ فقد مر تحقيقُه في تفسير سورة التوبة. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا} أي بليغًا في البِرّ والإلطاف تعليلٌ لمضمون ما قبله.
{وَأَعْتَزِلُكُمْ} أي أتباعد عنك وعن قومك {وَمَا تَدْعُون مِن دُونِ الله} بالمهاجَرة بديني حيث لم تؤثّرْ فيكم نصائحي.
{وَأَدْعُو رَبّى} أعبدُه وحده، وقد جُوّز أن يراد به دعاؤُه المذكورُ في تفسير سورةِ الشعراء، ولا أن يبعُد أيُرادَ به استدعاءُ الولد أيضًا بقوله: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} حسبما يساعده السباق والسياق {عسى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا} أي خائبًا ضائعَ السعي، وفيه تعريضٌ بشقائهم في عبادة آلهتِهم، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضعِ ومراعاة حسنِ الأدب والتنبيه على حقيقة الحقِّ من أن الإجابةَ والإثابةَ بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوبِ، وأن العبرةَ بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصّةِ بالعليم الخبير ما لا يخفى.
{فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} بالمهاجرة إلى الشام {وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} بدلَ مَنْ فارقهم من أقربائه الكفرة لكن لا عَقيبَ المهاجرة فإن المشهورَ أن الموهوبَ حينئذ إسماعيلُ عليه السلام لقوله تعالى: {فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} إثرَ دعائِه بقولِه: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} ولعل ترتيبَ هِبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمالِ عِظَم النّعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة مَن اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبياء لهما أولادٌ وأحفادٌ أوُلو شأنٍ خطير وذوو عددٍ كثير. هاذ وقد روي أنه عليه السلام لما قصد الشام أتى أولًا حَرّان وتزوج بسارةَ وولدت له إسحاقَ ووُلد لإسحاقَ يعقوبُ والأولُ هو الأقربُ الأظهر {وَكُلًا} أي كلَّ واحد منهما أو منهم وهو مفعولٌ أولٌ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَبِيًّا} لا بعضَهم دون بعض.
{وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا} هي النبوةُ، وذكرُها بعد ذكر جعلِهم نبيًا للإيذان بأنها من باب الرحمةِ، وقيل: هي المالُ والأولادُ وما بُسط لهم من سَعة الرزقِ، وقيل: هو الكتابُ والأظهر أنها عامةٌ لكل خير ديني ودنيويَ أُوتوه مما لم يُؤتَه أحدٌ من العالمين {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} يفتخر بهم الناسُ ويثنون عليهم استجابةً لدعوته بقوله: {اجعل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ في الاخرين} والمرادُ باللسان ما يوجد به من الكلام ولسانُ العرب لغتُهم، وإضافتُه إلى الصدق ووصفُه بالعلو للدلالة على أنهم أحِقّاءُ بما يثنون عليهم وأن محامِدَهم لا تخفى على تباعد الأعصارِ وتبدُّل الدول وتحوُّل المِلل والنِحَل. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ}.
{قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا قال أبوه عندما سمع منه عليه السلام هذه النصائح الواجبة القبول فقيل؟ قال مصرًا على عناده مقابلًا الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} اختار الزمخشري كون {راغب} خبرًا مقدمًا {الحق وَأَنتَ} مبتدأ وفيه توجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجيب.
وذهب أبو البقاء وابن مالك وغيرهما إلى أن {أَنتَ} فاعل الصفة لتقدم الاستفهام وهو مغن عن الخبر وذلك لئلا يلزم الفصل بين {أَرَاغِبٌ} ومعموله وهو {عَنْ الِهَتِى} بأجنبي هو المبتدأ وأجيب بأن {عَنْ} متعلق بمقدر بعد أنت يدل عليه أراغب.
وقال (صاحب الكشف): المبتدأ ليس أجنبيًا من كل وجه لاسيما والمفصول ظرف والمقدم في نية التأخير والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ في العربية وإن كان مرجوحًا.
ولعل سلوك هذا الأسلوب قريب من ترجيح الاستحسان لقوة أثره على القيا، ولا خفاء أن زيادة الإنكار إنما نشأ من تقديم الخبر كأنه قبل أراغب أنت عنها لا طالب لها راغب فيها منبهًا له على الخطأ في صدوفه ذلك ولو قيل: أترغب لم يكن من هذا الباب في شيء انتهى، ورجح أبو حيان إعراب أبي البقاء ومن معه بعدم لزوم الفل فيه وبسلامة الكلام عليه عن خلاف الأصل في التقديم والتأخير، وتوقف البدر الدماميني في جواز ابتدائية المؤخر في مثل هذا التركيب وإن خلا عن فصل أو محذور آخر كما في أطالع الشمس وذلك نحو أقائم زيد للزوم التباس المبتدا بالفاعل كما في ضرب زيد فإنه لا يجوز فيه ابتدائية زيد.
وأجاب الشمني بأن زيدًا في الأول يحتمل أمرين كل منهما بخلاف الأصل وذلك إجمال لا لبس بخلافه في الثاني فتأمل {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ} تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إليه لأرجمنك بالحجارة على ما روى عن الحسن، وقيل: باللسان والمراد لأشتمنك وروى ذلك عن ابن عباس وعن السدي والضحاك وابن جريج، وقدر بعضهم متعلق النهي الرغبة عن الآلهة أي لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي لأرحمنك وليس بذاك {واهجرنى} عطف على محذوف يدل عليه التهديد أي فاحذرني واتركني وإليه ذهب الزمخشري.
ولعل الداعي لذلك وعدم اعتبار العطف على المذكور أنه لا يصح أو لا يحسن التخالف بين المتعاطفين إنشائية وإخبارية، وجواب القسم غير الاستعطافي لا يكون إنشاء وليست الفاء في فاحذرني عاطفة حتى يعود المجذور.
ومن الناس من عطف على الجملة السابقة بناء على تجويز سيبويه العطف مع التخالف في الاخبار والإنشاء والتقدير أوقع في النفس {مَلِيًّا} أي دهرًا طويلًا عن الحسن، ومجاهد، وجماعة، وقال السدي: أبدًا وكأنه المراد، وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل:
فتصدعت صم الجبال لموته ** وبكت عليه المرملات مليًا

وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره بطولًا ولم يذكر الموصوف فقيل هو نصب على المصدرية أي هجرًا مليًا، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المعنى سالمًا سويًا والمراد قادرًا على الهجر مطيقًا له وهو حينئذ حال من فاعل {اهجرني} أي اهجرني مليًا بالهجران والذهاب عني قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح، وكأنه على هذا من تملي بكذا تمتع به ملاوة من الدهر.
{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)}.
{قَالَ} استئناف كما سلف {سلام عَلَيْكَ} توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة فإن ترك الإساءة للمسيء إحسان أي لا أصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك، وهو نظير ما في قوله تعالى: {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} في قوله، وقيل: هو تحية مفارق، وجوز قائل هذا تحية الكافر وأن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلًا بقوله تعالى: {لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم} [الممتحنة: 8] الآية، وقوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم} [الممتحنة: 4] الآية، وما استدل به متأول وهو محجوج بما ثبت في (صحيح مسلم): «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام» وقرئ {سَلاَمًا} بالنصب على المصدرية والرفع على الابتداء {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} أي استدعيه سبحانه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الايمان كما يلوح به تعليل قوله: {واغفر لاِبِى} بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} [الشعراء: 86] كذا قيل فيكون استغفاره في قوة قوله: ربي اهده إلى الايمان وأخرجه من الضلال.
والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه كما أنه لا رب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فإن ما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا تبين له عليه السلام بالوحي على أحد القولين المذكورين في سورة التوبة أنه لا يؤمن تركه أشد الترك فالوعد والإنجاز كانا قبل التبين وبذلك فارق استغفاره عليه السلام لأبيه استغفار المؤمنين لأولي قرابتهم من المشركين لأنه كان بعد التبين ولذا لم يؤذنوا بالتأسي به عليه السلام في الاستغفار.

.قال الطيبي:

إنه تعالى بين للمؤمنين إن أولئك أعداء الله تعالى بقوله سبحانه: {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} [الممتحنة: 1] وأن لا مجال لإظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عداوتهم بقوله عز وجل: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه: {لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم وَلاَ أولادكم يَوْمَ القيامة} [الممتحنة: 3] ثم سلاهم عز وجل بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السلام وقومه بقوله تبارك وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيم والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ} إلى قوله تعالى شأنه: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعني لكم التأسي بإبراهيم عليه السلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولاتبدوا لهم الرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم عليه السلام لأبيه في قوله: {سأستغفر لك} لأنه لم يتبين له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم انتهى.